جلد إسرائيل للعرب- تبعية التطبيع و عجز الأنظمة

إمعاناً في التضليل، ألقت إسرائيل بمسؤولية تجويع غزّة على عاتق مصر، متهمةً إياها بمنع وصول المساعدات الإنسانية و إغلاق معبر رفح، المعبر الحيويّ الذي يخضع لسيطرتها، و بذلك تُنكر إسرائيل أبسط حقوق الإنسان الأساسية لأهالي القطاع المحاصر. و في هذا الاتهام، لا تكتفي إسرائيل بالتنصل من مسؤولياتها، بل تريق ماء الوجه المتبقي لكل من راهن على السلام معها منذ البداية.
هذا المسلك الإسرائيلي ليس وليد اللحظة، بل هو سلوك معهود يتكرر على مر التاريخ، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول. فالسيد المستبدّ دائمًا ما يُحمّل تابعه أخطاءه وتقصيره، و يجعله كبش فداء لجرائمه. إنه يسلب منه إنسانيته و حريته قبل أن يُدخله قصره، ثم يعامله كأداة لتبرير فشله و أخطائه.
بهذه الطريقة المهينة تتعامل إسرائيل مع العرب، مستمدةً جبروتها و تفوقها من الدعم المطلق الذي تتلقاه من حليفها الأكبر في البيت الأبيض والكونغرس، حيث يرهبهم العرب أكثر من خشيتهم لخالقهم. ففي نظر إسرائيل و حلفائها، مكانة العرب هي مكانة التابع الخاضع، المُعدّ للخدمة و تلقي اللوم و العقاب عند أي تقصير. بل إن كل دولة عربية في نظرهم ما هي إلا وتد صغير في جدار، يُعلّق عليه أصحاب النفوذ من الغرب مصالحهم و رغباتهم.
ما الهدف الذي يسعى إليه الغرب وإسرائيل من خلال حملات التطبيع المستمرة؟ الإجابة الأبلغ نجدها في كلمات الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، في كتابه "ثغور المرابطة"، حيث يقول إنهم يريدون من المستجيب للتطبيع أن يتخلى عن قيمه وأخلاقه و هويته الأصيلة، ليصبح مجرد تابع ذليل يُحرّكه سيده كيفما شاء ومتى شاء.
أعلم أن هذا الكلام قد يبدو جلدًا للذات، لكنه للأسف الشديد، حقيقي و مؤلم! فمن يرضى بالمهانة و الذلّ مرة، يصبح الاعتياد عليها أمرًا يسيرًا. ذات مرة، زار مناحيم بيغن، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق والحائز على جائزة نوبل للسلام بالمشاركة مع أنور السادات، مصر و ألقى خطابًا عند سفح الأهرامات، مدعيًا أن أجداده اليهود هم من بنوا هذه الأهرامات الشامخة!
يا لها من فرية عظيمة وتزييف سافر للتاريخ! و المؤسف أن السادات اكتفى بابتسامة عريضة، متجاهلاً هذا الادعاء الباطل. فالحقيقة الجلية هي أن الأهرامات بناها المصريون القدماء، و هي موجودة في مصر قبل وصول اليهود إليها بقرون مديدة.
هكذا تتعامل إسرائيل بازدراء مع كل من يمد يده إليها من العرب، سواء كان ذلك عن طريق الصلح أو بالإكراه، و كأن لسان حالها يقول: "أنتم لا قيمة لكم، أنتم عاجزون عن البناء والإنجاز، وكل ما تملكون هو من خيرنا و فضلنا، أنتم مجرد أدوات!". و هي و حلفاؤها في الغرب يسعون بكل ما أوتوا من قوة إلى جعل إسرائيل جزءًا طبيعيًا من المنطقة، تدّعي محبة العرب و توددها إليهم، ثم ما تلبث أن تتخلى عنهم عند أول منعطف، كما فعل محاميها في لاهاي. إنه حب من طرف واحد، حب العبد الخانع لسيده المتسلط.
إذن، ما هو المرمى النهائي الذي يصبو إليه الغرب و إسرائيل من خلال حملات التطبيع؟ الإجابة الشافية نجدها عند الفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن، في كتابه "ثغور المرابطة"، إذ يرى أنهم يهدفون إلى سلخ المستجيب للتطبيع عن هويته وأصالته و مبادئه، ليصبح تابعًا مسلوب الإرادة، يحركه سيده كما يشاء.
وإذا زعم أحدهم اليوم أن إسرائيل تخشى على مستقبلها، و تسعى إلى التطبيع مع العرب لضمان بقائها، فهو يشتري الوهم و يبيعه لغيره. فمتى كان العرب يشكلون تهديدًا حقيقيًا لإسرائيل، قبل ملحمة "طوفان الأقصى"؟ إنها اليوم تخشى أفعال المقاومين الأبطال أمثال مجاهدي القسام وسرايا القدس، بينما هي مطمئنة إلى أن أصحاب الرتب الرفيعة الذين هزمتهم مرارًا وتكرارًا في ساحة المعركة لن يحركوا ساكنًا. فهل يمكن للفريسة أن تحرك رأسها و هي بين فكي المفترس؟
و الأمر المثير للدهشة أن الحكومة المصرية لم تصدر أي رد على تصريحات محامي إسرائيل، و لو كان مجرد بيان بسيط، كما اعتدنا أن نسمع على مدى سنوات طويلة. فلو أنها فعلت ذلك، لاستعادت بعضًا من هيبتها و مكانتها أمام العالم، و لجعلت إسرائيل تفكر مليًا قبل أن تقدم على اجتياح محور فيلادلفيا بهدف تضييق الخناق على المقاومة الفلسطينية الباسلة في غزة.
و لكن الأمر الأكثر مرارة و ايلامًا، هو أن الأنظمة العربية اتفقت بالإجماع على ترك جنوب أفريقيا ترفع الدعوى القضائية أمام محكمة العدل الدولية بمفردها، دون مشاركة أي دولة عربية أخرى. ربما كان هذا هو الخيار الأفضل، فهم لطالما كانوا أهل فشل و تقاعس، لا أهل إنجاز و نجاح.
هذه هي المعضلة الكبرى التي تواجهنا مع النظام العربي: العجز المتفشي في كل شيء و في كل زمان. و مع طول سبات هذا النظام و تشبثه الأبدي بالسلطة، امتد هذا الداء إلى الشعوب، فأطال ليل غفلتها. و إذا ما حاولت هذه الشعوب أن تستيقظ و تنتفض، أعادتها سياط القمع إلى كوابيس الاستبداد، فخافت و استسلمت وغُيّبت عن المشهد، لتصبح الأوطان لقمة سائغة في فم كل طامع.
هذا النظام العاجز لا يرى الواقع كما هو من حوله، و لا يتعلم من دروس التاريخ. و كما قال ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، و هو بالمناسبة أحد أشد المتعصبين ضد القضية الفلسطينية: "إذا أردت أن تستشرف آفاق المستقبل، فأمعن النظر في صفحات التاريخ مليًا".
لو أن نظامنا العربي يعود بالذاكرة إلى الوراء سنوات قليلة فحسب، ليراجع تاريخه المعاصر، لوجد أن ما يحدث اليوم في البحر الأحمر من تداعيات للحرب الإسرائيلية الغربية على غزة، يُنذر بما هو أدهى و أعظم من مجرد ضرب اليمن الذي يحكمه "أنصار الله" الحوثيون. فلو رد هؤلاء على الغارات الأميركية البريطانية، كما توعدوا، و تصاعدت حدة التوتر و أُغلق باب المندب و البحر الأحمر أمام حركة الملاحة الدولية، و هو ما يعتبره الغرب تهديدًا للاقتصاد العالمي، فقد تتخذ أميركا و شريكتها بريطانيا ذلك ذريعة لتنفيذ عمل عسكري يتجاوز حدود الغارات الجوية المحدودة.
فما الذي قد يمنع الأميركيين من إنزال قواتهم على شواطئ اليمن الجنوبية، كما فعل الإنجليز عام 1839، حين كانوا إمبراطورية لا تغيب الشمس عن أراضيها، و ظلوا هناك لمدة 128 عامًا؟ فقد كان البحر الأحمر بحرًا عربيًا خالصًا بضفتيه إلى أن جاء الاستعمار الغربي، الذي كان تواقًا للقضاء على الخلافة العثمانية، يقتطع أملاكها شرقًا و غربًا، فاحتل عدن و سيطر على مفاتيح باب المندب، إلى أن خرج الإنجليز في نوفمبر 1967، أي بعد خمسة أشهر من حرب حزيران من العام نفسه، و احتلال فلسطين كاملة، و معها سيناء و الجولان.
لا شيء يحول دون وقوع هذا الاحتمال الرهيب، لا قدر الله. الأنظمة العربية عاجزة، بل إن بعضها متواطئ، و اليمن نفسه منقسم على نفسه و تمزقه الحروب، و قد صرح بعض المطالبين باستقلال الجنوب بأنهم على استعداد للتطبيع مع إسرائيل.
و قد يرى الغرب أن وجود سفنه الحربية بشكل دائم في البحر الأحمر أمر غير مستدام على المدى الطويل، و قد يفضل التواجد على البر بقواته أو من خلال قوات تابعة له و لنظام على شاكلة الأنظمة التي نراها اليوم. و إذا حدث ذلك، فسوف تُحكم الطوق على رقابنا، فليس لنا سيطرة فعلية على مضيق هرمز، و مفاتيح مضيق جبل طارق في يد بريطانيا المستعمرة. و حين يتخيل المرء مثل هذا السيناريو، كما يقولون، تسري رعشة باردة في جسد كل عربي غيور.
هل احتلال أرض عربية أمر مستبعد؟ قبل سنوات قليلة فقط، طالب الشعب السوري بالحرية، فقُتل و هُجّر، و احتلت أرضه دول عديدة حتى يومنا هذا. و العراق قبله احتُلَّ و ما زال، فحتى الدنمارك و ربما ليختنشتاين لديها طائرات تتمركز في العراق، الذي لا يقوى على إخراج الأميركيين من أرضه. و ليس هذا بالأمر الغريب، فالذين يحكمونه اليوم قد جاؤوا في البدء على ظهر دبابة أميركية. هذا غيض من فيض تاريخنا القريب، و لا حاجة للغوص بعيدًا في تفاصيله لتكوين قناعات راسخة.
و لا داعي لذكر ما يحل بغزة اليوم و بالضفة الغربية، فالواضح الجلي أن النظام العربي قد أسقط فلسطين من حساباته القومية، و المؤلم حقًا أن الشعوب قد تخلت عن كل معاني النخوة الإنسانية و العزة و الكرامة، مكتفيةً بالتفرج بصمت مطبق على أشلاء أطفال غزة، صمت يشبه صمت القبور.
تدرك إسرائيل هذا العجز العربي، وهي التي تأسست على أرض فلسطين عام 1948 نتيجة لهذا العجز، كما أنها اليوم أحد أهم أسبابه. فهل تُفشل مصر الرسمية إذن خطط إسرائيل المعلنة لاحتلال محور فيلادلفيا، و نشر قوات احتلال على طول حدود قطاع غزة مع مصر؟ لا يمكن للمرء أن يتوقع ذلك في ظل صمت الحكومة المصرية المريب على تصريحات ممثل إسرائيل أمام المحكمة الدولية.
و ليس هناك أيضًا من المواقف السابقة لها، منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، ما يوحي بأنها قد تخاطر و تتبنى سياسات أكثر صرامة و جرأة، باستثناء ما قاله الرئيس الراحل محمد مرسي، رحمه الله، من أن مصر لن تتخلى عن غزة، و ربما كان هذا أحد الأسباب الرئيسية للانقلاب عليه، وسجنه حتى الموت.
و لكن السؤال الأهم الذي يجب أن نجيب عليه هو: كيف ننتفض على ذل العجز و الهوان؟ اسألوا أحرار غزة، فهم من يمتلكون الإجابة الصحيحة.
